هرب من السجن أثناء ترحيله ولم يجد له مخبأ إلا حديقة عامة اقتحمها متسلقا شجرة قريبة من أسوارها استغل منحنى ميلها على السور ليكون فى الحديقة المكتظة فى ثوان بلا عناء يذكر لكنه اختبأ بملابس السجن تلك فى أحراشها بعيدا عن زحام رواد الحديقة، عندما جن عليه الليل وأصبح فيها وحيدا بعد أن انطفأت المصابيح الداخلية وأغلقت البوابات، تحرك حذرا متلفتا على أضواء مصابيح أعمدة إنارة الشوارع الخارجية التى ينعكس ضوءها من بعيد على دروب وطرقات الحديقة، اغتسل بماء صنابير الحديقة وغسل ملابسة فى أجواء نصف مظلمة و أشعل بعض النار فى حطام شجيرات جافة جمعها من هنا وهناك ثم تجول يبحث فى سلال القمامة عن بقايا الطعام و هو بملابسه الداخلية.
كان عمره بالفعل يتجاوز الثلاثين لكن يبدو للناظرين أكبر من ذلك بكثير بسبب مسحة السجن والشقاء الذى يغطى بشرته السمراء، فى تلك الأمسية اضطر هذا السجين الهارب أن يصارع كلاب و قطط الحديقة على بقايا طعام الرواد لكنه فى النهاية أكل وشرب وعاد إلى النار يؤججها بالتلويح عليها بملابسه ويغذيها بالحطب ثم يقرب نفسه من وهجها تارة ليحصل على الدفء و بملابسه تارة ليجففها، عندما أصبحت شبه جافة خلع ملابسه الداخلية بعد أن تحرر من بعض خوفه وقليل من حرصه بعد أن تأكد أنه فى الحديقة على طولها وعرضها بمفرده فذهب بها إلى أحواض الحمامات وغسلها ثم اغتسل مرة أخري وعاد بها إلى الاحراش ليجففها قربها من النار و بقى كذلك حتى جفت ثم ارتداها واستراح.
ظل أياما على هذا الحال مختبئا بملابس السجن من الدوريات الباحثة عنه فى أحراش تلك الحديقة التى بدأ يلاحظ أن أعداد روادها يقل بشكل ملحوظ وكذلك اختفى القائمون على إدارتها حتى أصبحت الحديقة مهجورة تماما بلا مخلفات أو ضجيج، فى تلك الأُثناء كان قد بدأ يتضور جوعا خاصة أن الحديقة محاطة بشوارع و بيوت ترسل من مطابخها روائح ونكهات تثير جوع الممتلئ الشبعان فم بالك بإحساس هذا الجائع المسكين الذى لم يكن أمامه إلا أن يسد جوعه بأكل الأغصان وما فيها أو عليها من زهر أو ثمر .. اختفى الرواد تماما ولم يعودوا للحديقة وهو لا يدري أن السلطات قد أعلنت الحظر الشامل للتجوال لأجل غير معلوم وأن على الناس أن تبقى فى بيوتها وعلى كل المقاصد العامة والخاصة أن تغلق أبوابها وكانت الأوامر قد صدرت صارمة تعطى الشرطة الحق فى إطلاق النار على من يكسر قرار الحظر، فالوباء كان قد تخطى في تفشيه كل الحدود .. لم يعد يرى أو يسمع أحدا ولا يعرف سر اختفاء الناس لكنه فى المساء من خلال الأسوار لاحظ ان الشارع أيضا ليس به أحدا إلا أكمنة الشرطة، بدأت الدهشة والتعجب والخوف تتسرب إليه وتجتمع عليه من شروق الشمس على عينه وانقضاء النهار وهو جائع حتى بزوغ القمر ولمسة برد المساء، فالأكمنة تحاصر الحديقة بكثافة وإحكام من كل زاوية حتى أصبحت فكرة الخروج من الحديقة مستحيل أن تتحول إلى واقع سواء فى الليل أو النهار، فى هذا المساء ومن خلال الأسوار رأى رجال البوليس والأكمنة المتحركة وهم يطلقون النار من بعيد على متسول مسن يرتدي أسمالا بالية يتحرك بخطى متسارعة قريبا من سور الحديقة، اقترب السجين أكثر من مكان الرجل ثم اختلس السمع فوجد لأفراد الشرطة يتحدثون من مكبرات الصوت من داخل السيارة إلى الرجل الذى تمت إصابته ليوبخوه على عدم طاعته للأوامر بالبقاء فى بيته، ابتعد السجين الهارب بهدوء عن السور وعاد إلى أحراش الحديقة وهو يتذكر فى حديقة الظلمات والوحدة والخوف والجوع يتذكر عندما كان أمله الأكبر الهروب من السجن والآن وجد نفسه وكل أمله أن يجد طريقة يمكنه بها العودة إلى نفس السجن.
المصدر : صدي البلد