أين شرف الكلمة؟

لازالت تعلق بذاكرتي التي تقترب من الستين حولًا صورة سيارات الصحافة وهي تجوب شوارع القاهرة مع نسمات الليل الباردة، في حركة مألوفة لعشاق الليل، لتوزع الطبعة المميزة من جريدة المساء، والتي كنا نتخاطفها بمجرد وصولها، كي نلتهم وجبة شهية تغذي عقولنا حتى الصباح، حين نتلقف الصحف المعتادة لنا برائحة الأحبار التي لم تجف بعد.لازلت أتذكر أسماء عمالقة الكُتاب الذين زرعوا فينا حب القراءة، والتفكر فيما نقرأ، واحترام الآخر، وعدم الاستخفاف بالقاريء مهما كان جنسه أو لونه أو عقيدته، فأصبحنا نتذوق الكلمة الراقية ونعي أنها أمانة في أعناقنا.
كنا نتابع صولات وجولات كبار الكتاب بشغف شديد، كالتي بين طه حسين والعقاد؛ مثلما كنا نتابع عن كثب حسنين هيكل، صاحب المدرسة المُميَّزة، لنطل من نافذتها على عالم السياسة، والتي كنا نتزاحم عليها جميعًا في زمن ما قبل الحداثة.
والثابت أننا كشبابٍ مقبلٍ على الحياة الثقافية كسيل جارف لا تستطيع السدود الصمود أمامه، لم نكن نشك يومًا أن هناك من يعمل في بلاط صاحبة الجلالة يمكن أن يمارس الكذب على القراء أو يدلس في كتاباته، بل على العكس كانت عبارات الأغلبية آنذاك رفيعة المقام، رشيقة الكلمة، لدرجة أننا كنا نحفظها عن ظهر قلب ونتبارى بها.واليوم ومع تحول العالم إلى قرية واحدة، وتمكن العولمة من مفاصل الدول، أصبحت الكهرباء التي تسري في عقول القراء تسمى الإنترنت، فإذا قمت بقطع ذلك التيار اللامرئي عن عقولهم جن جنونهم، وسعوا بكل السبل لإزالة الأسباب، حتى تعود الروح ثانية لأجهزتهم الذكية كي تعرض عليهم ما لذ وطاب من صنوف المعارف، مشروعة كانت أم ممنوعة؛ وليست الأخيرة محل الجدل لكون المتصفح هو من يحدد ما يريد أن يتقوت به من معارف الإنترنت، الذي قام بإذابة الحواجز بين البشر، وانتهك عذرية الخصوصية الثقافية للأمم.
وفي خضم هذا الفضاء الإليكتروني المتشابك الخيوط، يخرج علينا أصحاب الأقلام المأجورة ومعهم آلاف الأكاذيب والشائعات المغلوطة عبر مقالات وتغريدات هشة البنيان، نتنة الرائحة، دونما اعتبار للخراب الذي سيحل على المجتمع أو سينال من منظومة القيم والمباديء الإنسانية. ولا شك أن هذا المسلك مُتعمد في كثير من الأحيان لتفتيت عُرى الأمة المصرية، وإحداث فجوة بينها وبين القيادة السياسية. فكم من الشائعات والأخبار الزائفة أطلقها أصحاب الكلمة الصفراء ضد مصر، وكم من الأكاذيب روجتها جماعات إرهابية، ظاهرة كانت أم مستترة، وكم من غش وتدليس مارسه مراسلو المنظمات الأجنبية بمصر على العالم، وكان أخرها تقرير صحيفة الجارديان البريطانية التي صورت للعالم كذبًا أن مصر تخفي الأرقام الحقيقية لمصابي كورونا، وأنها بالآلاف وليس بالمئات؛ وهي ذات الصحيفة التي روجت كذبًا عام 2011 أن الرئيس الأسبق مبارك يملك سبعين مليارًا بالبنوك الأوروبية، لتصب بنزينًا على ثورة المصريين آنذاك.
لقد فعلت الحكومة المصرية خيرًا حين كشفت عن قوة قبضتها، غير مبالية بجنسية الصحيفة، فقامت بإغلاق مكتبها بالقاهرة، لتفقد بذلك رخصة البقاء على أرض المحروسة؛ ولم تكتف بذلك بل حذرت النيويورك تايمز أيضًا بتوخي الدقة والأمانة فيما يصدر عن مكتبها بالقاهرة.
هذه هي قوة القرار التي دومًا نتوق إليها، حين نتساءل أين حكومتنا، التي استحقت أن نرفع لها القبعة ليس فقط لذلك القرار، بل أيضًا لمنهجها المُحكم في التعامل مع الأزمات الأخيرة من سيل الأربعاء إلى الكورونا المجنونة.
غير أن ما يُحزن المرء حقًا أن يجد من بيننا نحن المصريين قلة تفرح لهذه الشائعات والأكاذيب، وكأنها تشفي غليلها، وتتهلل فَرِحة حين تسمعها، وتروج لها عمدًا على وسائل التواصل الإجتماعي لتشوه صورة الدولة المصرية والحط من إنجازاتها وصلابة شعبها.
لهؤلاء الذين سقطت أقنعتهم، وغابت عقولهم أقول: اتقوا الله في وطنكم، وتمعنوا في الحديث النبوي القائل: "لتقل خيرًا أو لتصمت".

المصدر : صدي البلد