..وظلت التدريبات مستمرة لحمزة ورفاقه؛ استعدادًا لرحلة العودة حتى حان الوقت وبدأت اتصالات سرية بين المجموعة العائدة والخلية الإرهابية في سيناء حسب الخطة التي وضعها اللواء سليم وتحت اشرافه المباشر ..
وكانت خطة اللواء وفريقه أن تصدر القيادة العامة للقوات المسلحة تعليمات لأفرادها بضرورة الانتباه والحذر بعد فرار ثلاثة هاربين ممن نفذوا هجوم الحدود، وتمكنهم من الاقتراب من سيناء في محاولة منهم للانضمام إلى أعوانهم ..
وأتت ثمارها بعد ساعات قليلة حيث انتشر الخبر ليصل للخلية عن طريق أبو منصور ذاك الرجل السيكوباتي النرجسي لديه شعور مفرط بالتفرد والاحساس بذاته، وغالبًا ما يضع احتياجاته أولا قبل أي شخص وبغض النظر عن الظروف المحيطة، ولديه قدرة عجيبة على النفاق، ومسايرة الأمور، لا يجد صعوبة في الضحك وداخله بركان من الحزن،
ويبكي بحرارة بينما قلبه يرقص فرحًا، وإن كان للأنانية شكل فقطعًا ستكون مثله، وهو مثال حي للسلبية واللامبالاة ..
أما عن التناقض وعدم اقتران التصرفات مع بعضها البعض، والقيام بأفعال مضادة للمجتمع، دون أدنى شعور بالذنب.
فهي من أبرز ملامحه الشخصية ..
ولا نبالغ عندما نقول بأنه يفتقر إلى التعاطف وعدم المقدرة على الشعور بالآخرين، فهو أحد العملاء السريين لتلك الخلية من المتدثرين بعباءة الخيانة التي حيكت خيوطها بدماء الشعب المصري..
هؤلاء الشياطين الملاعين يندسون بين أبناء سيناء الشرفاء؛ لنقل المعلومات للخلية ..
كل هذه الصفات القذرة أهلته أن يكون عينًا وأذنًا للشياطين، فاستعمله اللواء في تمرير معلومات للخلية عن دخول حمزة ورفاقه إلى أرض الفيروز، ثم أمر اللواء سليم بتجهيز ثلاثة أفراد قبل نقلهم بطائرة عسكرية وإنزالهم في منطقة جبلية تمهيدًا للتنفيذ ..
فيسأله ماجد: ولماذا فقط ثلاثة سيعودون بينما الباقي لن يشارك؟
فيجيبه ياسين: لا نستطيع المغامرة بالجميع فمن غير المستبعد أن تفشل العملية لسبب ما، حينها سوف نكون قد قدمنا للعدو كل ما لدينا، ولا تنسى أننا قد أعلنا من قبل عن هروب ثلاثة فقط ..
ثم قال ياسين: ولكن ماذا عن حسن هل مازال مريضًا؟ ..
فقال ماجد: لا تقلق بشأنه لقد حرصت على أن يراه الجميع مريضًا؛ حتى لا يشك أحد في أمر استبعاده من المهمة ..
وبينما يتبادل اللواء وفريقه أطراف الحديث، يدخل أحد الضباط فيؤدي التحية العسكرية ثم يقول:
تمام يا افندم الطيارة جاهزة والأفراد في انتظار أوامر سعادتك ..
فيرد اللواء: خمس دقايق والمجموعة تتحرك،
ثم ينظر للدكتور ماجد قائلًا: رجالتك جاهزة يا ماجد؟ ..
فيجيبه الطبيب بكل حماسة وتفاؤل بأنهم على أتم استعداد، ولكن ماذا بعد إنزال الأفراد في المنطقة المحددة؟ ..
فنظر اللواء في ساعته قبل أن يعطي إذن التحرك للطائرة أولًا،
ثم استطرد حديثه الموجه لـ ماجد وقال مازحًا:
بعض من أفراد الخلية الإرهابية سيكونون في انتظارهم!! ..
دهش الطبيب لأنه يعلم أن الخلاف بين اللواء والمزاح قد بلغ منتهاه، كالماء والنار لا يلتقيان أبدًا ..
ما يعرفه ماجد عن جدية اللواء سليم ساعده في إيجاد التفسير المناسب لهذا الحديث الغامض، فأدرك أن وجود اتصالات سرية سابقة تمت بين أفراد المجموعة والخلية هو الأقرب للتصور ..
ثم بدأت الأمور تتكشف أمامه عندما شاهد مع اللواء سليم وياسين تسجيلًا للعمل الذي قام به بكر صاحب المقهى الذي أظهر للجميع ارتعاده وخوفه الشديد، حين اهتزت يده أكثر من مرة فسقط الشاي وتعجب الحضور مما يحدث فسأله أحدهم: مالك يا بكر؟ ..
أنت تعبان ولا حاجة؟ ..
قال بكر بتسرع ولسانه يتلجلج من شدة الخوف والهلع:
أيوه فعلًا أنا تعبان شوية النهارده، ولازم أرجع البيت عشان أرتاح ..
معلش يا جماعة لازم اقفل القهوة دلوقتي عشان مش قادر ..
فانصرف الجميع امتثالًا لطلبه بينما ظل أبو منصور جالسًا دون حراك! ..
فسأله بكر عن سبب بقائه وطالبه بمغادرة المكان حتى يتمكن من إغلاق المقهى، لكنه يأبى المغادرة قبل أن يعرف السبب الحقيقي للحالة التي يبدو عليها بكر فيجيبه بعد مماطلة: بأن السبب الحقيقي هو الخوف الشديد بعد رؤيته قبل قليل للإرهابيين الثلاثة الذين انتشرت صورهم من قبل ..
وأمام إصرار أبو منصور على معرفة التفاصيل ونقلها لأعوانه يخبره بكر بمكان تواجدهم، فيسأله اللئيم: ولم لا تبلغ الشرطة؟
فتظاهر بكر أحد عملاء جهاز الأمن في العريش بالخوف على نفسه مستغلًا ما يعرف به بين الناس بالجبن وضعف الشخصية، وعدم التعبير عن الرأي لاسترضاء الآخرين،
ليس هذا فحسب بل إن عدم الوقوف باستقامة وضم الكتفين مما يعبر عن ضعف شخصيته وعدم ثقته بنفسه كانت ولازالت أبرز السمات الشخصية التي اشتهر بها بين الناس ..
ولعل براعة بكر في أداء دوره ساعد على وصول الثلاثي للخلية
المُولعة بنبْش القبور وقتل البشر وشهوتِها لِلدم البشري والانتقام من بني آدم دونما أسباب، أو بالأحرى لأسباب ابتدعوها هم بأنفسهم المريضة لتبرير أفعالهم البزيئة ..
هذه الجماعات متى رأَت إنسانًا نائمًا حفرتْ تحت رأسِه وأخذت بحلْقِه، فتقتله وتشرب دمه ..
تلك الجماعات الفاسقة كالضباع يضرب العربُ بها المثل في الفساد؛ فإنَّها إذا وقعتْ في الغنَم عاثتْ وأفسدت،
ولَم تكتفِ بِما يكتفي به الذِّئْب ..
وما يحدث الآن بعد التحام المجموعة بالخلية إن صح التشبيه فهو أقرب ما يكون من اجتماع الذئب والضبع ..
ترى من سيفتك بالآخر؟ ..
هذا ما يترقبه اللواء وفريقه، كما يترقبون ورود أخبار عن المجموعة بعد انضمامها الفعلي لأفراد الخلية التي استقبلت هؤلاء الثلاثة بحفاوة بالغة وخصوصًا جعفر أمير الخلية المتطرفة ..
تلك الخلية التي تضم أجناسًا ومللًا متعددة، فالطيور على أشكالها تقع ..
ولا تقتصر تلك المجموعات والخلايا على جنسية أو عقيدة دينية كما يدعي الغرب الذي تمكن من إلحاق تهمة الإرهاب بالمسلمين بينما هم في حقيقة الأمر الراعي الأول للتطرف والعنف ..
ورعاية الأفراد الذين يعيشون دائما في غيبة زمانية كحال باقي الجماعات المتطرفة .. الفرد منهم لا يدرك التاريخ ولا حركته أو قوانينه،
فلا ينتبه لأحوال الأمة من حيث القوة والضعف، التقدم والتخلف، بل يختزل الأمة في أفراد جماعته وتنظيمه فقط دون النظر للأخرين ..
فهو مناصر جيد لأي شخص أو جماعة تخدم قضيته وتحقق رؤية جماعته حتى وإن اختلفت الأفكار كما هو حالهم جميعًا ..
قد يجمعهم العدو الواحد وإن اختلفت أهدافهم، لكن ما إن يشتموا ريح نصر حتى يتجرؤوا على المبارزة وقتل بعضهم البعض رغبة في الزعامة والإمارة، دونما أدنى انتباه أو شعور بحال المجتمع، فيفسدونه وهم يدعون إصلاحه، ويهزمون الأمة شر هزيمة وهم يزعمون انتصارها ..
فهذا المجرم جعفر بالرغم من فظاظة طباعه وغلظة قلبه،
والمبالغة في الشكليات والطقوس، والتعصب للرأي، وتَجْريم المختلف، إلا أنه بدا هذه المرة لطيفًا جدًا على غير العادة حين استقبل حمزة ورجالة بحفاوة تعجب لها الحاضرون، وترحاب حرَّك بداخلهم شعورًا لا يجب أن يظهر !
فما عهدوا منه إلا الجفاء والقسوة وعدم الرحمة حتى وإن تعلق الأمر بأقرب الأقربين ..
فهذا منتصر أحد أفراد الخلية في حوار ذاتي مع نفسه يتساءل:
ترى ما هو السبب وراء ذلك التحول الرهيب في شخصية الأمير ! ..
تعجب منتصر وسيطر عليه الفضول، لكنه لا يجرؤ على محادثة الأخرين في ذلك، وربما الأمر أكبر من ذلك بكثير فلا يسمح لأحدهم أن يدلي برأيه أو يعبر عما يجول بخاطره ..
ليس هذا فقط بل إن العُقَدَ التي تسكن أرواحهم تقف حائلًا أمام ممارسة حقوقهم المشروعة، كإبداء رأي أو استفسار عن شيء وربما يتعدى الأمر تلك المرحلة بكثير حين يمنعه الخوف من الاتصال بنفسه التي بين جنبيه ومحاورتها ..
قد تكون الثقة المفقودة دافعًا قويًا للخوف الذي منع منتصر من التفكير داخل المكان فيما يشغله حتى خرج وحيدًا لينفرد بذاته، ثم التفت مرتعدًا ينظر أولًا يمينًا ويسارًا كالسارق قبل أن يجلس في الظلام فوق صخرة كبيرة بالقرب من المخبأ ثم شرع في الحوار الذاتي حين قال محدثًا نفسه في صمت:
هل هذا هو الأمير الذي نعرفه بالفعل؟!
هل هذا من قام بتفجير سيارة أخيه وقتله بعد أن فشل في إنقاذه، وإخراجه منها حين علقت بين الصخور،
ثم فر هاربًا قبل وصول القوات؟!
لكن حوار منتصر مع نفسه ينتهي سريعًا دون إجابة؛ عندما سمع صوتًا بالقرب منه أرعبه بشدة، وأعاده إلى الواقع مرة أخرى حين التفت ليجدها ورقة تحركها الرياح، فانتفض واقفًا وعاد مسرعًا إلى الداخل ليشارك رفقاءه الطعام هربًا من التفكير الذي يرى فيه تجاوزًا للأعراف التي تحكم قطعان الإرهاب الذين اعتادوا على التبعية والانقياد خلف شخص يعرف كيف يحركهم كقطع الشطرنج ..
بينما على الجانب الأخر يتبادل اللواء سليم ومجموعته التهاني بنجاح خطة انضمام المجموعة للخلية والحديث حول المرحلة القادمة من المهمة ودراسة الموقف الحالي،
فهناك حالة من السعادة والتفاؤل تسيطر على اللواء وفريقه
بعد الاستماع لما يدور داخل الخلية عبر أجهزة التنصت الدقيقة
التي يحملها الأفراد الثلاثة في خواتم مختلفة الأشكال يرتدونها ..
لكن تلك السعادة لم تكن خالصة، بل تخللها بعض القلق والريبة من أمر قد يحدث في القريب العاجل؛
حين سمعوا بالهجوم الإرهابي الذي تعد الخلية لتنفيذه في وقت قريب دون تحديد لماهيته أو مكانه، لكن موعده بات معلومًا للواء ومساعديه ..
عكف اللواء وفريقه على البحث وتحديد الهدف الذي يمكن أن تستهدفه الخلية قبل وقوعه، لكن الأمر على مايبدو قد فات أوانه؛ والمفسدون في طريقهم للتنفيذ؛ فما قاله جعفر لحمزة ومن معه لا يدل على غير ذلك..
التقطت أجهزة التنصت ما قاله جعفر للعائدين أثناء تناول أول عشاء يجمع الذئب بالضباع:
كلوا وانبسطوا، حق اخواتكم راجع بكره متخافوش..
فسأله حمزة وعيناه ترقص فرحًا بينما قلبه ينزف دمًا: راجع بكره ازاي؟
لكن جعفر كعادته لا يفصح عما في ضميره وما حواه جنانه فيقول: بكره تعرف متستعجلش.