في ذكرى رحيله.. حكاية الشاعر شارل بودلير وأزمة ديوانه «أزهار الشر»

يعد الشاعر الفرنسي شارل بودلير، الذي تحل اليوم ذكرى رحيله، أحد أبرز شعراء القرن التاسع عشر، ومن رموز الحداثة في العالم، وكان شعره متقدما عن شعر زمنه فلم يفهم جيدا إلا بعد وفاته.

شارل بودلير، بدأ كتابة قصائده النثرية عام 1857 عقب نشر ديوانه أزهار الشر، مدفوعا بالرغبة في شكل شعري يمكنه استيعاب العديد من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبرى حتي يقتنص في شباكه الوجه النسبي الهارب للجمال، وجد بودلير ضالته فيما كتبه الوزيوس بيرتيران من بالادات نثرية مستوحاة من ترجمات البالادات الاسكتلندية والألمانية إلى الفرنسية.

والبالاد هو النص الذي يشبه الموال القصصي في العربية وهو الشكل الذي استوحاه وردزورث وكوليريدج في ثورتهما علي جمود الكلاسيكية.

وفي عام 1861 بدأ بودلير في محاولة لتدقيق اقتراحه الجمالي وتنفيذه فكتب هذه القصائد التي تمثل المدينة أهم ملامحها، وتعتبر معينا لا ينضب من النماذج والأحلام.

وكان الشاعر شارل بودلير يري أن الحياة الباريسية غنية بالموضوعات الشعرية الرائعة، وهي القصائد التي أضيفت إلي أزهار الشر في طبعته الثانية عام 1861 تحت عنوان لوحات باريسية.

ولم ينشر ديوان سأم باريس في حياة بودلير، وهو الديوان الذي لم يتحمس له غوستاف لانسون وسانت ـ بيف، هذا الديوان الذي اثر تأثيرا عارما في الأجيال اللاحقة.

وكان بودلير يعانى من عدة أمراض إلى جانب معاقرته الخمور وإدمانه الأفيون؛ ما أدى لإصابته بجلطة دماغية وشلله إلى جانب معاناته مع مرض الاضطراب الثنائى القطب ومات وحيدا منبوذا من المجتمع.

ومن أبرز أعمال الراحل ديوان "أزهار الشر"، الذي أثار ضجة كبيرة، وتم محاكمته، حيث كتب جوستاف برودان فى صحيفة "الفيجارو"، يوم 5 يوليو 1857 بعد عشرة أيام من صدور "أزهار الشر" فى 1100 نسخة، ليلفت انتباه وزارة الداخلية إلى كتاب بودلير، ويحفزها على ملاحقة الديوان قضائيًّا.

لكن بودلير يكتب، فى نفس الوقت، إلى أمه: "إننى سعيد تقريبًا لأول مرة فى حياتى، فالكتاب جيدٌ تقريبًا، ولسوف يبقى، هذا الكتاب، شهادةً على قرفى وحقدى على سائر الأشياء"، ويكتب إلى ناشره "بوليه – مالاسى" لينبهه إلى المصادرة الوشيكة لنسخ "أزهار الشر": "أسرع، فلتخبئ، لكن فلتخبئ جيدًا، كل الطَّبعة؛ فلتُبقِ فحسب على 50 نسخة لتغذية الحارس الشرس، العدالة".

ولم تفلح بعض المقالات النقدية المادحة للديوان فى إبعاد شبح المحاكمة، وبعد يومين من نشر مقال "لو فيجارو" يتم بالفعل تقديم بودلير وناشريه إلى المحاكمة، بتهمة انتهاك الأخلاق العامة، وانتهاك الأخلاق المسيحية، وتطالب النيابة العامة بحذف 10 قصائد، ست منها بدعوَى إهانة الأخلاق العامة، وأربع بدعوَى إهانة الأخلاق المسيحية.

وكان وكيل النيابة إرنست بينار – فى مرافعته – بالغ الدقة والوضوح فى مرافعته الجديرة حقًّا بالتأمل، ولم يطالب بمصادرة الديوان ككل، بسبب عدد من القصائد التى يعترض عليها؛ بل طالب فحسب بحذف تلك القصائد من الديوان.

ولم يخلط بين الديوان و"شخص" بودلير، فلم يطلق العنان لنفسه للتهجم الغاشم على شخص الشاعر، وارتقى فى معارضته لبعض القصائد إلى حد أن شكَّل وجهة نظر "نقدية" فى "منهج" بودلير الشعرى.

وأنهى وكيل النيابة مرافعته بالمطالبة بالتسامح مع بودلير، الذى يمثل طبيعةً قلقةً بلا توازن، وأدان بعض قصائد الكتاب.

أما "جوستاف شيه ديستانج"- محامى بودلير – فوافق وكيل النيابة على ما قاله من أن بودلير "أراد أن يُعرِّى كل شيء، وينبش الطبيعة الإنسانية فى خباياها الأكثر حميمية، بنبرات قوية مؤثرة، وبالغ فى ذلك وخاصةً فى جوانبها البشعة، مضخمًا منها فوق الحد"، لكن من أجل غاية مناقضة: "لأنه يريد أن يبث فيكم كراهيةً أعمق لها، وإذا ما كانت ريشة الشاعر تجعل لكم من كل ما هو قبيح رسمًا مفزعًا، فبالتحديد لتقدم لكم فيه المفزع".

وفى 20 أغسطس 1857، يصدر الحكم: لم تَثبت التهمة فيما يتعلق بجريمة التعدى على الأخلاق الدينية، وفيما يتعلق بتهمة التعدى على الأخلاق العامة والسلوك الحميد، قررت المحكمة أن خطأ الشاعر، فى الهدف الذى كان يسعى إلى تحقيقه، وفى السبيل الذى سلكه، مهما كان الجهد الذى بذله فى الأسلوب، وأيًّا ما كان الاستنكار الذى يسبق أو يلى لوحاته، لم يمح الأثر الكئيب للوحات التى يقدمها للقارئ، والذى يقود بالضرورة- فى القصائد المتَّهَمَة- إلى استثارة الحواس بفعل واقعية فظة وخادشة للحياء؛ وهو ما يعنى أن بودلير وناشرَيه قد ارتكبوا جريمة انتهاك الأخلاق العامة والسلوك الحميد فى القصائد المعنية.

وتمت إدانة بودلير بغرامة 300 فرنك؛ والناشرَين بغرامة 100 فرنك؛ والأمر بمصادرة القصائد الست المتهمة بإهانة الأخلاق المسيحية: ليسبوس، نساء ملعونات، ليثيه، إلى تلك المبتهجة للغاية، الجواهر، تحولات مصاصة الدماء.

وفيما بعد، صدرت الطبعة الثانية من "أزهار الشر" (1861) خاليةً منها، بالفعل، لكن بودلير لم يتخل عنها، فقام بنشرها- مع مجموعة قصائد أخرى- فى بروكسيل، تحت عنوان "البقايا".

المصدر : صدي البلد