د. إنجي فايد تكتب: من «إنب حج» إلى العاصمة الإدارية

من المثير للمعرفة أن مصر عبر تاريخها العريق لم تعرف عاصمة واحدة، فلكل مرحلة عاصمة تبرق وتسطع وفقا لمقدرات الزمن أو تغفو لعدم اكتمال نضجها، ليس هذا هو الحال في مصر فحسب بل كان الحال في أغلب بلدان الحضارات القديمة، فتنوعت وتعددت العواصم، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا تعددت العواصم ؟
لقد كان المصري القديم من الذكاء والحكمة في بعض الأزمنة والعصور ما يجعله يضع عناصر متنوعة ليحافظ بها علي بريق العاصمة لتظل مزارا و مركزا إشعاعيا رغم أنف المغرضين حتي لو انتقلت العاصمة لمكان آخر، فالاختلاف والتعدد في العواصم كان يرجع لأسباب سياسية واجتماعية ودينية. ففي عصر ما قبل الأسرات كانت العواصم تعبيرا ورمزا لتفوق وانتصار أحد الوجهين: البحري أو القبلي، فنجد ظهور مدينة "أونو"/ هليوبوليس– (عين شمش أو المطرية حاليا) – مقر الإله آتوم ثم رع، وخرج منها الفلاسفة بالمذهب الديني التجسيدي لتفسير نشأة الوجود حينما كانت الزعامة للوجه البحري في تلك الفترة، وبني فيها أول جامعة وظل اسمها يتردد عبر التاريخ القديم وكثيرا ما علا صوت فلاسفتها وكهنتها علي كهنة طيبة. ثم تسود مملكة الصعيد فتكون "تخن"- (الكوم الأحمر) حاليا هي العاصمة- وبعد توحيد القطرين اتخذ نارمر من "إنب حج" أي مدينة الجدار الأبيض أو السور الأبيض وعرفت بـ "منف" ( ميت رهينة حاليا) عاصمة له، وظلت كذلك طوال عصر الأسرات و عصر الدولة القديمة، ويني فيها الملوك أهم المقابر الملكية والمعابد، وكانت مقر زعامة الفكر والعقيدة والسياسة والإرادة، ورمز ومزار العالم منذ ذلك الوقت وحتي الآن.
وقد تغني مؤرخو العالم القديم بآثارها، ليغفو ضوء "منف" لضعف آخر ملوك مصر في الأسرة السادسة ويسود الفساد والانقسام ثانية، وتظهر أهناسيا كعاصمة في العصر الوسيط -عصر الإضمحلال الأول- ثم يأتي منتوحتب الثالث ويلم شمل مصر ويؤسس الدولة الوسطي وينتقل بالعاصمة لطيبة ( الأقصر حاليا) التي لم تكن إبان الدولة القديمة سوى بلدة محدودة الأهمية بالنسبة لمثيلاتها أرمنت في الجنوب ومدامود في الشمال.
ومن طيبة ذاع سيط الإله آمون وجعلها الملك الباشا منتوحتب قوة سياسية ودينية نافست علي مر العصور العواصم الأخرى، ثم في عصر امنمحات الأول في الأسرة ١٢، نجد "اثبت تاوي" عاصمة مصر ولم يعرف التاريخ كثيرا عنها لتمر الأحداث وتذهب العاصمة لتل العمارنة في عهد أخناتون، لتندلع منها ثورة سياسة ودينية وفنية تركت آثارها حتي الآن، ومنها عرف أول مخطط لعاصمة متكاملة ثم تغفو لتعود الريادة لطيبة فسايس عاصمة مصر في العصر الصاوي، وهكذا ما بين شروق وغروب ولكن تظل منف وطيبة وتل العمارنة وسايس من الأسماء الباقية علي مر التاريخ .
لقد نجح ملوك مصر القديمة كلُ في عهده من فتح آفاق في العواصم التي اختاروها وأنشأوا فيها كل العناصر المشجعة علي انتقال الحياة إليها واستمرار سيطرتها وصيتها لفترة زمنية ليست بالقليلة.
ومع اليونان، يبني الملك المقدوني الإسكندرية بجوار أقدم ميناء فرعوني عند بحيرة مريوط ويمتد بحدودها حتي مصطفي كامل متبعا التخطيط الهيبودامي الذي ظهر في أقدم مدينة مصرية "كاهون" بالفيوم ذات التخطيط الشطرنجي وأصبحت بالنسبة لهم عاصمة مصر/ايجيبتوس كما سماها هوميروس حيث قام البطالمة بالحكم منها، وتمر الأيام لتكون قاهرة المعز عاصمة الدولة الفاطمية منذ ٩٦٩م.
وجب علينا تسليط الضوء علي تلك العواصم والمحافظة علي تنميتها والإستمرار في دعمها والحد من التخريب العمراني حفاظا علي تاريخ عريق لن يتكرر..فأي عاصمة جديدة تعتبر نظرة ايجابية لمرحلة أخري من التعمير والاستفادة من مساحة مصر الشاسعة الممتدة، وهكذا المغزي من العاصمة الإدارية.

المصدر : صدي البلد