العالم منذ ثلاثة أشهر ليس هو العالم الآن .. نشعر أننا نعيش فى زمن آخر ..عالم آخر.. ثوابت كثيرة تنهار .. وقواعد جديدة تنشأ .. وأولويات تتراجع… دول تصعد .. ودول تهبط.. واتحادات تتفكك .. وصداقات تتبدد.. اهتمامات تتبدل .. وهوايات تندثر.. مشاعر تنشأ .. ورغبات تخمد.. ما يشاهده هذا الجيل حدث لم يتكرر منذ أزمان طويلة ويجب أن يقوم المؤرخون بتدوينه وتسجيله بأمانة للأجيال المقبلة.
فقد كنت أتصفح بالمصادفة عددا من جريدة صادر قبل ثلاثة أشهر فقط، وتبسمت بتعجب من اختلاف جميع الأخبار وجميع الاهتمامات وقتها عما نحن عليه الآن .. لقد انقلبت الأمور جميعها رأسا على عقب بعد ظهور هذا الفيروس اللعين ..
لم يعد أحد يهتم الآن بمباريات كرة قدم ولا من سيفوز على من ولا من سيلاعب من .. ولا أحد يهتم الآن بمطربى المهرجانات الذين ظهروا على السطح فجأة وأصبحوا حديث الساعة وضيوف أهم برامج التليفزيون .. اختفت تقريبا الحوادث الإرهابية والتدخلات الدولية فى شئون الدول الأخرى .. وشاهدنا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بدلا من مطالبته ببناء سور يمنع الهجرة الى بلاده ويصدر القوانين لمنع حصول اصحاب الجنسيات الأخرى من الحصول على الجنسية الأمريكية يعرض على اطباء الدول الأخرى اعطائهم الجنسية الأمريكية ..
كل الأمور اختلفت فى كل المجالات.. أصبح الأطباء والعلماء هم نجوم الفضائيات والبرامج وهذا هو الوضع الطبيعى الذى كان ينبغى أن يكون من البداية.. تم في زيادة بدل العدوى للأطباء .. أصبح الأهالى يستقبلون الأطباء العائدين من عملهم بالحجر الصحى استقبال الأبطال ورفعوا لهم الأعلام وأطلقوا الأغنيات الوطنية من الشرفات وقدموا لهم باقات الورود .. وهذا التقدير أيضا كان ينبغي أن يكون من البداية.
هل هذا الفيروس نعمة أم نقمة.. البعض يراه نعمة بعدما شاهدنا اغلاق محلات الخمور والملاهي والمراقص وصالات القمار وشواطئ العراه والمقاهي والنوادى فى معظم دول العالم، والبعض يراه نقمة لإلغاء العمرة وإغلاق الكعبة والمساجد ووقف إقامة صلاة الجمعة..
البعض سعيد بالعودة الإسرة واجتماع أفرادها مبكرا مع بعضهم وتبادل الأحاديث وتناول الطعام معا.. والبعض يرى ذلك كابوسا مزعجا وبعض الزوجات بدأن بالشكوى من تدخل الأزواج في شئون البيت وابداء الملاحظات علي كل كبيرة وصغيرة، البعض يقول انه رغم اجتماع الأسرة معا إلا أن الجميع ما زال منكفئا علي موبايله مكتفين بالتواصل الاجتماعي مع اصدقائه البعيدين بدلا من التواصل مع أسرته المقيمة معه.
العالم اختلف بالفعل خلال الثلاثة أشهر الماضية.. كنا نقول من قبل أن التكنولوجيا جعلت العالم قرية صغيرة.. ولكن «كورونا» حولت هذه القرية الى غرفة واحدة أصبح العالم كله يعيش فيها ويرى الأشياء نفسها ويشعر بنفس الأحاسيس وينظر بخوف الي المستقبل.. أصبح العالم مثل رجل عجوز مريض يحتاج من يساعده ويعينه..
التباعد الاجتماعي الحاصل حاليا بين البشر أصبح يمثل كابوسا لكبار السن الذين وجدوا أقرب الناس إليهم يتخلون عنهم بعدما أفنوا حياتهم من أجلهم.. انقطعت الزيارات بين الأقارب وقست القلوب.
الى أى مدى سيصل بنا هذا الفيروس العجيب الذى وقف أمامه العلماء عاجزين وتهاوت أمامه أكبر الدول التى كانوا يطلقون عليها الدول العظمى؟..
ما زلت أتذكر الروبوت الآلى المسمى «صوفيا» والتى قامت بجولة في المنطقة العربية وزارت خلالها مصر .. وكنا ننظر اليها باعتبارها عجيبة من عجائب الزمان واقصى ما وصل اليه العلم حيث انها تستمع الى الآخرين وترد عليهم بطلاقة وبعدة لغات .. وتساءلنا وقتها بانبهار.. الى أى مدي سيصل التقدم العلمى .. لم نكن ندري أن كل هذا التقدم العلمي ذ الحادث في الدول الكبري والميزانيات الضخمة التي خصصتها للبحث العلمي والوصول للفضاء يتهاوي أمام فيروس لا يرى بالعين المجردة.
رأينا المواطنين في دولة كبرى مثل إيطاليا يلقون بأموالهم في الشارع لأنها فقدت قيمتها أمام هجوم الفيروس عليهم ولم يعودوا في حاجة للاحتفاظ بها في الخزائن .. فماذا تساوى الأموال وهم يشعرون انهم سيودعون الحياة بعد ساعات ولن تجدي لهم الأموال شيئا.
أصبحنا نرى سعر جوال البصل أغلي من برميل البترول .. والجوانتي والكمامة أهم من المجوهرات.. والكحول أهم من البرفان.. وأصبحت كولونيا 555 التي كان الجميع ينفر من رائحتها ويسخرون ممن يستعملها تحتل المكانة الأولى بين العطور وخرجت من الصناديق المهملة في المنازل لتتصدر الأرفف، وعادت المصانع والمحلات التي تبيعها الي الانتعاش والازدهار.